بعض نجوم هوليوود وكتّاب السيناريو تجاوزوا الشاشة ليمارسوا التجسس فعليا وفق وثائق ومذكرات الحرب الباردة (شترستوك)

بعض نجوم هوليوود وكتّاب السيناريو تجاوزوا الشاشة ليمارسوا التجسس فعليا وفق وثائق ومذكرات الحرب الباردة (شترستوك)

تحمل الأعمال الدرامية التي تتناول موضوعات التجسس والمخابرات وطبيعة السلطة جاذبية خاصة تجعلها في صدارة اهتمام الجمهور، وتمنح أبطالها نجومية مضاعفة. غير أن هذا الغموض لا يبقى دائما حبيس الشاشة، بل يتسرب أحيانا من موقع التصوير إلى دهاليز السلطة الحقيقية.

فقد تبين أن بعض النجوم وكتّاب السيناريو تجاوزوا حدود التخييل إلى الواقع، وانتقلوا من صناعة أوهام التجسس إلى ممارسته فعليا. وتشير وثائق رُفعت عنها السرية بعد سنوات من الحرب الباردة، إضافة إلى مذكرات ومحاضر محاكم، إلى أن بعض الأسماء البارزة في هوليود والعالم الفني عملت كمخبرين أو جواسيس.

ومن بين هذه الأسماء تبرز المغنية الأميركية الفرنسية جوزفين بيكر، والممثلة الألمانية – الأميركية مارلين ديتريش، والمخرج الأميركي جون فورد، وغيرهم، كاشفة عن فصل منسي من التاريخ الثقافي، حيث تداخل الفن مع عالم التجسس، وتحوّل نجوم السينما إلى شخصيات تتحرك بين عدسات الكاميرا وملفات الأجهزة السرية، في قصص تركّز على الأداء بقدر ما تكشف عن صراع النفوذ والسلطة.

جوزفين بيكر: محاربة أميركية في باريس

لم تكن جوزفين بيكر مجرد أيقونة فنية تركت بصمتها على مسارح باريس خلال الحرب العالمية الثانية، بل تحولت أيضا إلى وجه من وجوه المقاومة الفرنسية. فالمغنية الأميركية، التي هاجرت من بيئة فقيرة في الولايات المتحدة لتصبح رمزا ثقافيا في فرنسا، استغلت شهرتها الواسعة كغطاء لمهام تجسسية لصالح المقاومة.

جرى تجنيدها على يد جاك أبتاي، رئيس المخابرات المضادة الفرنسية آنذاك، لتبدأ مهمات سرية شملت نقل رسائل مشفرة مخبأة في ملابسها، أو مدونة على أوراق الموسيقى، خلال تنقلاتها بين الدول الأوروبية وشمال أفريقيا. كما استخدمت قصرها في باريس كمخبأ لعناصر المقاومة، ووفرت لهم الغذاء والملاذ الآمن، وساعدت في تمرير وثائق مزورة ونقل لاجئين إلى مناطق أكثر أمانا.


 

ورغم دورها البارز، لم يُكشف رسميا عن كونها جاسوسة إلا بعد وفاتها، حيث ظهرت الحقيقة عبر وثائق حكومية فرنسية ومذكرات مؤرخين وأرشيف المقاومة. تكريما لتضحياتها، حصلت بيكر على أوسمة مرتبطة بالمقاومة الفرنسية، وبقيت في ذاكرة الفرنسيين رمزا للشجاعة والصمود، تتجاوز صورتها كنجمة استعراضية لتخلّد كإحدى بطلات النضال ضد الاحتلال النازي.

Dancer Josephine Baker arriving at the Savoy Hotel in London, April 25th 1945. (Photo by Keystone/Hulton Archive/Getty Images)
جوزفين بيكر لم تكن مجرد أيقونة فنية تركت بصمتها على مسارح باريس بل وجها من وجوه المقاومة الفرنسية (غيتي إيميجز)

مارلين ديتريش: الصوت المعادي والنغمة السرية

مارلين ديتريش، ممثلة ألمانية تحوّلت إلى نجمة هوليودية، عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، تعاونت مع مكتب “أو إس إس” (OSS) التابع للحكومة الأميركية، وحاربت إلى جانب الجيش الأميركي بالغناء، وإرسال الرسائل التي تؤثر في معنويات الجنود الألمان، وتقديم محتوى إذاعي موجه للجيش الألماني والإيطالي لكسر الروح المعادية.

استخدمت ديتريش صوتها وميكروفونها كسلاح. في تسجيلات إذاعية، كانت تغنّي بالإنجليزية والألمانية، تُرسل رسائل مضادة للدعاية النازية، تُردد بإلحاح مفردات منظومة القيم الغربية عن الحرية، ومقاومة الطغيان. أتاح وجودها كشخصية مشهورة لها الوصول إلى شرائح واسعة من المستمعين داخل المعسكر المعادي، حيث كانت تبث من لندن ولوس أنجلوس.

لكن التحدي والتناقض الشخصي كان هائلا: صوتها يوحي بالترف والنجومية، لكنها في الداخل تحمل عبء المراقبة، الخذلان، الشك. هل هي ألمانية الأصل؟ هل ما زالت تربطها جذور ثقافية مشبوهة في أعين بعض الأميركيين؟ كيف توازن بين صورة الممثلة المتألقة وصوت البطل الناعم الذي يقاوم من وراء الميكروفون؟

تم نشر ما يخص علاقتها بالأجهزة المخابراتية الأميركية بعد إعلانه من قبل أرشيف مكتب الخدمات الإستراتيجية (OSS) الذي افتُتح لاحقا، وسجلات المباحث الفدرالية “إف بي آي” (FBI) التي تتابع نشاطها الإعلامي، ومقابلات تاريخية مع موظفي (OSS) والإذاعيين. عُثر على نصوص بعض مشاريعها الإذاعية بعد الحرب وألقِيت في بحوث جامعية، وُجدت نسخة من أحد التسجيلات بخطاب موجه للجنود في جبهات القتال، يستخدم الموسيقى والنغمة الصوتية لتشتيت الانتباه وتقويض الثقة بالنظام الألماني.

1932: Marlene Dietrich (1901 - 1992) casually dressed in shirt and loosened tie. (Photo by Eugene Robert Richee/John Kobal Foundation/Getty Images)
مارلين ديتريش سخّرت صوتها في إذاعات من لندن ولوس أنجلوس لنشر رسائل مضادة للنازية (غيتي إيميجز)

جون فورد: المخرج الذي صور الحرب في الظلام

عُرف جون فورد بأفلامه التي مجدت روح المغامرة الأميركية، واحتفت بالعائلة والوطنية. ورغم أنه كان شخصية عامة، تُدرس في الأكاديميات، لكنه كان يمتلك هوية أخرى، هوية مخبأة في ظلام العمليات السرية خلال الحرب العالمية الثانية.

انضم فورد إلى القوات البحرية الأميركية، وسرعان ما أصبح رئيسا لوحدة التصوير السينمائي لمكتب الخدمات الإستراتيجية (OSS)، التي تحولت فيما بعد إلى وكالة المخابرات المركزية “سي آي إيه” (CIA). لم يكن دوره مجرد تصوير أفلام دعائية، بل كان عملا استخباراتيا في قلب المعارك. كان فورد يرى في الكاميرا أداة للتجسس والتوثيق، فقام بتصوير هجوم القوات اليابانية على جزيرة ميدواي في عام 1942، وكانت لقطاته هي الشاهد الوحيد على تلك المعركة. وقد أصيب بشظايا في ذراعه خلال التصوير، مما يثبت أنه لم يكن يكتفي بالإخراج من وراء الكواليس.


 

التناقض بين حياة فورد العلنية والسرية كان صارخا. فبينما كان يقضي أيامه في صناعة أفلام تُعرض في قاعات السينما المضيئة، كان يقضي لياليه في مناطق القتال، يواجه الموت من أجل الحصول على لقطات حقيقية للحرب. كانت أفلامه الدعائية، مثل “معركة ميدواي” (Battle of Midway)، تُستخدم لرفع الروح المعنوية للجنود والشعب، لكنها في جوهرها كانت تُعبّر عن تجربة شخصية عاشها خلف الكواليس.

بعد الحرب، عاد إلى هوليود، وواصل إخراج الأفلام، لكن تجربة الحرب تركته شخصا مختلفا، وقد أثرت في نظرته للإنسانية والحياة. لم يكن يتحدث كثيرا عن وقته في الجيش، وكأن ذلك الجزء من حياته كان مخصصا لنفسه فقط، ولأرشيف الحكومة الذي ظل سريا لسنوات.

American director John Ford, wearing a suit, a tie and a hat, portrayed on a car in Lido, Venice, 1971. (Photo by Archivio Cameraphoto Epoche/Getty Images)
التناقض بين حياة فورد العلنية والسرية كان صارخا (غيتي إيميجز)

ستيرلينغ هايدن: الممثل دائما

كان ستيرلينغ هايدن، الممثل المعروف بأدواره في أفلام مثل “العراب” (Godfather) و”دكتور سترينجلوف” (Dr. Strangelove)، رمزا للرجل القوي والمتمرد في هوليود. كانت ملامحه الحادة وشعره الأشقر الطويل يمنحانه حضورا فريدا على الشاشة.

قبل أن يصبح ممثلا، كان هايدن بحارا ومغامرا. وعند اندلاع الحرب العالمية الثانية، انضم إلى مكتب الخدمات الإستراتيجية (OSS) تحت اسم مستعار “جون هاميلتون”، وعمل كقائد فريق في يوغوسلافيا، حيث كانت مهمته مساعدة المقاومة اليوغوسلافية ضد القوات النازية. شارك هايدن في تهريب الأسلحة والإمدادات، وأشرف على عمليات عسكرية سرية.

التناقض في حياة هايدن لم يكن بين شخصية فنية وأخرى سرية فحسب، بل كان بين عالمين متناقضين. فبينما كان في هوليود يعيش حياة الشهرة، واجه الموت في يوغوسلافيا وحارب من أجل قضية يؤمن بها. في سيرته الذاتية، تحدث عن اشمئزازه من الحياة المزيفة في هوليود، وكيف كان يفضل المغامرة الحقيقية التي وجدها في الحرب. كانت حياته المزدوجة مصدرا لصراع داخلي، جعله يعاني من الاكتئاب والإدمان في مراحل لاحقة من حياته.

Editorial use only. No book cover usage. Mandatory Credit: Photo by United Artists/Kobal/Shutterstock (5881297o) Sterling Hayden The Killing - 1956 Director: Stanley Kubrick United Artists USA Scene Still Mystery/Suspense L'ultime Razzia
بينما كان ستيرلينغ هايدن يعيش حياة الشهرة في هوليود، واجه الموت في يوغوسلافيا وحارب من أجل قضية يؤمن بها (شترستوك)

جيفري آرشير: الكاتب الذي عاش في رواياته

جيفري آرشير هو اسم معروف في عالم الأدب والسياسة البريطانية، فقد كان عضوا في البرلمان، ثم في مجلس اللوردات، وكاتبا غزير الإنتاج حققت رواياته مبيعات هائلة. لكن خلف هذه الأضواء، كانت هناك حياة أخرى، حياة سرية قضاها في الظل، حياة كانت تُشبه تماما تلك التي يكتب عنها في رواياته. فقبل أن يصبح مشهورا، كان آرشير جاسوسا سريا لجهاز الاستخبارات البريطاني “إم آي 6” (MI6)، حيث كانت مهامه الحقيقية تفوق في إثارتها أي حبكة روائية.

خلال فترة الحرب الباردة، كان العالم منقسما إلى معسكرين، وكانت أجهزة المخابرات في أوج نشاطها. في هذا الوقت، تم تجنيد آرشير من قبل جهاز “إم آي 6″، واستفاد من قدرته على السفر والتنقل بسهولة كواجهة لمهامه. كانت حياته العلنية كشاب طموح في عالم السياسة هي الغطاء المثالي لعمله السري. كان دوره يتضمن جمع المعلومات، والمشاركة في عمليات مراقبة، والعمل كحلقة وصل بين العملاء السريين. لم تكن مهامه سهلة أو خالية من المخاطر، فكل خطوة كانت محسوبة، وكل قرار يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة.

التناقض بين عالَمَي جيفري آرشير كان واضحا. فعلى جانب، كان يشارك في اجتماعات سياسية رفيعة المستوى ويحضر حفلات اجتماعية راقية، وفي الجانب الآخر، كان ينفذ مهام في الظلام، حيث لا مكان للبروتوكولات الرسمية.

بعد أن ترك العمل السياسي والاستخباراتي، بدأ آرشير في كتابة الروايات التي حققت نجاحا كبيرا. وكانت معظم رواياته تتناول قضايا التجسس، والمؤامرات السياسية، والفساد، وهو ما يعكس بوضوح الخبرة التي اكتسبها في حياته السرية. لقد سمح له ماضيه كجاسوس أن يضفي واقعية ومصداقية على شخصياته وأحداثه، مما جعل القراء يصدقون أن ما يقرؤونه قد يحدث بالفعل. في النهاية، لم يقتصر الأمر على أنه عاش حياة مزدوجة، بل استخدم هذه الحياة لإنتاج عمل فني يعكس الصراع بين الأضواء والظلام الذي عاشه بنفسه.

إعلان
 
المصدر: الجزيرة

About Post Author