“مع حسن في غزة”.. الذاكرة الفلسطينية بين الأرشيف والمقاومة على شاشة لوكارنو

الملصق الدعائي لفيلم "مع حسن في غزة" (الجزيرة)
نافس فيلم “مع حسن في غزة” في المسابقة الرسمية لمهرجان “لوكارنو” السينمائي، حيث ترشح لجائزة الفهد الذهبي، وفاز بجائزة “علامة يوروبا سينما” (Europa Cinemas Label Award).
“مع حسن في غزة” من إخراج كمال الجعفري، ومن المنتظر عرضه أيضا ضمن فعاليات مهرجان “تورونتو” السينمائي الدولي، وكذلك في مهرجان “لندن” السينمائي التابع لمعهد الفيلم البريطاني (BFI).
غزة التي التقطتها الكاميرا
في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2001، وفي خضم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، بدأ المخرج كمال الجعفري توثيق رحلة بحثه عن رجل شاركه السجن في غزة عام 1989، وقد رافقه في هذه الرحلة رجل يُدعى حسن كمرشد له. وبعد سنوات، أعاد الجعفري اكتشاف المواد المصورة، المحفوظة على 3 شرائط MiniDV، والتي شكلت فيما بعد أساس فيلمه “مع حسن في غزة”.
يستعرض “مع حسن في غزة” صورة لغزة قبل ربع قرن، غزة التي رغم مرورها آنذاك بالانتفاضة وما يرافقها من ضغط على سكانها وأوضاع لا تُطاق، بدت مختلفة جذريًا عن غزة اليوم التي يعيش أهلها مأساة إنسانية كاملة.
يقدم الفيلم بانوراما جغرافية وإنثروبولوجية لغزة مطلع الألفية، فيتنقل المخرج بعدسته المحمولة بين أحيائها ومناطقها المختلفة مع مرشده “حسن”. يصور أطفالا على شاطئ البحر، يصحبهم والدهم الخارج حديثًا من المعتقل، محاولًا تعويضهم عن غيابه الطويل القسري. ثم يتجول في حارات غزة الصغيرة، موثقًا المنازل المعرضة للقصف اليومي، وغضب النساء اللواتي تدمرت بيوتهن أمام أعينهن، فلا يجدن سوى الانتقال من مكان إلى آخر بحثًا عن رقعة آمنة لليلة واحدة. كما يمر بالمقاهي التي يجلس فيها رجال عاطلون عن العمل بسبب القصف، وقد أُغلقت معظم المتاجر وأماكن العمل، فيمضون وقتهم في ألعاب ترفيهية يخلطون فيها الأوراق بسخريتهم اللاذعة وغضبهم المكبوت من أنفسهم ومن كل ما يحيط بهم.
ثم يأخذ المخرج المشاهدين إلى منزل يتجمع فيه أصدقاؤه، حيث يواصلون حياتهم العائلية البسيطة رغم التهديد الواضح، يضحكون على أبسط النكات، ويتناولون الطعام الغزاوي على مائدة تجمع أشخاصًا من الشرق والغرب، ويصور أطفالا صغارًا تجاوزت أعمارهم اليوم الـ30 إن كانوا ما زالوا على قيد الحياة.
في سياق آخر، قد يُنظر إلى محتوى الشرائط التي صورها كمال الجعفري بوصفه باعثا للحنين، أو بابا نوستالجيًا لنسخة قديمة من مكان تغير بالضرورة مع الزمن. غير أنه الآن ليس إلا نافذة على حزن وأسى لا ينتهي على غزة التي التقطتها الكاميرا ولم تعد موجودة على أرض الواقع، وعلى أشخاص صوّرهم الجعفري.
دون أن يعلم اليوم ما إذا كان أي منهم لا يزال حيًا.
ليتحول “مع حسن في غزة”، كما وصفه كمال الجعفري بنفسه، إلى: “تحية إلى غزة وأهلها، وإلى كل ما مُحي ثم عاد إليّ في هذه اللحظة الملحة من الوجود الفلسطيني، أو اللاوجود. إنه فيلم عن الكارثة، وعن الشعر الذي يقاوم”.
من شرائط منسية إلى ذاكرة حية
قدم المخرج كمال الجعفري العام الماضي فيلمًا آخر عن فلسطين التي تُمحى من ذاكرة العالم أمام أعيننا، وهو “الفيلم عمل فدائي”. وقد تنقل الفيلم خلال عام 2024 بين عدد من المهرجانات السينمائية الدولية، ونال تقديرا واسعا تُوج بفوزه بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان “فيجن دو ريل” (Visions du Réel)، أحد أبرز المهرجانات العالمية المتخصصة في الوثائقيات.
يعود الجعفري في “الفيلم عمل فدائي” إلى الأرشيف بوصفه مادة حية يعيد من خلالها تركيب الحكاية، فيصوغ من اللقطات الممتدة عبر عقود سردًا بصريًا يواجه عنف الاحتلال وطمسه لفلسطين. فمنذ النكبة، عمل الاحتلال الإسرائيلي على طمس الهوية الفلسطينية ومحو تراثها بمختلف الوسائل، وكان من أبرزها استهداف الأرشيف الفلسطيني وتدميره.
يمثل الفيلم نموذجا بارزا لكيفية توظيف المواد الأرشيفية في بناء سرد سينمائي يُتابع وكأنه نص أُعد خصيصًا للشاشة، إذ يعتمد على لقطات صُورت عبر سنوات طويلة، ويعيد تشكيلها بالمونتاج مدعومة بالموسيقى والأغاني، ليصوغ عملًا متماسكا يرافق فيه المشاهد تفاصيل التمزق الذي أحدثه الاحتلال الإسرائيلي في جسد فلسطين.
ومن هذه الزاوية، يتقاطع “الفيلم عمل فدائي” مع “مع حسن في غزة” في اعتمادهما على لقطات مصورة من الماضي لبناء سردية تكشف محاولات الاحتلال الإسرائيلي لمحو الوجود الفلسطيني كأن لم يكن. غير أن “الفيلم عمل فدائي” يستند إلى صور أرشيفية عامة، في حين يميل “مع حسن في غزة” إلى لقطات شخصية وحميمية أكثر. فعلى الرغم من غياب المخرج عن الشاشة، فإن المتفرج يدرك أنه هو من يحمل الكاميرا الصغيرة ويختار ما يلتقطه.
ويزداد هذا البُعد الشخصي وضوحا مع تقدم الفيلم، إذ يبدأ بعرض لقطات من عام 2001 تستدعي بالضرورة صورة تلك الأماكن اليوم مقارنة بما كانت عليه. ويكشف المخرج، عبر سطور قليلة مكتوبة على الشاشة، السبب الذي دفعه إلى خوض هذه الرحلة في غزة، وهو بحثه عن صديق عرفه خلال فترة اعتقاله في شبابه المبكر قبل أن يبدأ مسيرته السينمائية ودراسته في الخارج.
لا يملك كمال الجعفري سوى عدسته الصغيرة، واسم الصديق الذي لا يعرف إن كان حيًا أم رحل، وحكاية يفصح عنها في ختام الفيلم عن ذلك الفتى الذي مثل روح التمرد في المعتقل، وواجه السجانين بجرأة قد تُعرضه للموت. لقد ترك هذا الصديق أثرًا لا يُمحى في ذاكرة الجعفري الشاب إبان سجنه أثناء الانتفاضة الأولى، وظل حاضرًا في وعيه حتى دفعه خلال الانتفاضة الثانية للبحث عنه، ليقدم بعد “طوفان الأقصى” فيلمًا يوثق تلك الرحلة.
نسي الجعفري الشرائط الثلاث التي صورها مع حسن عام 2001، ثم عاد ليكتشف أنها جديرة بالعرض على الشاشة الكبيرة، لتصبح شهادة بصرية أدت إلى ميلاد فيلمه “مع حسن في غزة”، وربما وثيقة أخيرة تُجسد ملامح غزة قبل أن يلتهمها القصف الإسرائيلي المستمر.