
إغناطيوس غوتيريث دي تيران غوميث بينيتا (مدريد، 1967) أستاذ اللغة والأدب العربي والتاريخ المعاصر في العالم الإسلامي في قسم الدراسات العربية والإسلامية في جامعة مدريد المستقلة.
درس اللغة العربية وآدابها (مستمعا) في جامعة القاهرة عام 1993 وجامعة دمشق عام 1994، أنجز رسالة الدكتوراه عام 2000 موضوعها “العلاقات الطائفية في لبنان وسوريا من حقبة التنظيمات العثمانية إلى نهاية القرن العشرين”.
تولى تنسيق الدراسات الأفريقية والآسيوية، وهو الاختصاص الذي تندرج فيه مقررات اللغة والثقافة العربية في جامعته، وكان قد تبوأ أمانة سر قسمه للدراسات العربية والإسلامية طوال عقد من الزمن.
ترجم عدّة كتب من الإسبانية إلى العربية، ونقل إلى اللغة الإسبانية روايات عربية معاصرة لمؤلفين معاصرين مثل إبراهيم الكوني، وإدوارد الخراط، ومريد البرغوثي، وعالية ممدوح، وبهاء طاهر، وغسان كنفاني، ومازن معروف.
ومن ترجماته الشعرية إلى الإسبانية نخص بالذكر دواوين لمحمد الماغوط وسميح القاسم ومحمود درويش وسعدي يوسف وغيرهم.
كما ترجم إلى اللغة العربية بعض الأعمال الأدبية الإسبانية كـ”رحلة علي باي إلى المغرب” (2005)، وشارك في “أسبنة” كتاب “تاريخ الأدب الإسباني المعاصر” (2006)، ونشر مقالات بالعربية في صحف ومجلات عربية عدّة.
كتب عدة مقالات في الأدب الإسباني والعربي والعالم العربي المعاصر منها: “نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب” لشهاب الدين التيفاشي، و”اليمن.. مفتاح العالم العربي المنسي” (2014)، و”دراسة في الجنسانية العربية: الروض العاطر” (مدريد، 2015)، ونشر دراسة عن اللغة والثقافة العربيتين في إسبانيا مع مجموعة من الباحثين الإسبان الذين يكتبون بلغة الضاد عام 2016، و”الثورات العربية.. مسيرة متواصلة” (2017).
كما نقل إلى اللغة الإسبانية “رسالة للجواري والغلمان” للجاحظ (2018)، وأسهم في دراسات ومؤلفات متعددة تبحث في أدب الرحلة، ومنها المقال المدرج في المجموعة التي نسقها الأديب نوري الجراح (“رحالة عرب ومسلمون”).
وكان للجزيرة نت هذا الحوار الخاص معه، لتسطلع آراءه حول اللغة العربية أو “لغة الأجداد المنسيّة”.

ما سر عشقك للعربية؟
نحن في إسبانيا نقيم علاقة متميزة مع الحضارة العربية الإسلامية منذ قرون، وفي حالتي أنا انجذبت إليها بعد الالتحاق بالجامعة والتعرف على هذه اللغة الجميلة التي تشكل دراستها عنصرا مهما جدا من تاريخنا. “فتنت باللغة فصرت عبدا لها”.
ماذا تعني العربية بالنسبة إلى الإسبان اليوم؟
بالنسبة لعدد كبير من المواطنين الإسبان فإن العربية لغة منسية “كان هناك من ينطقها” في زمان غابر لا يمت لنا بصلة، وإن كان بعض المثقفين والسياسيين يدّعون أن الإسلام يمثل “كيانا دخيلا عدائيا” سيطر على أراضينا قبل ما يزيد عن ألف سنة، ثم جاء “الاسترداد” فطرد المحتل، فإن شرائح واسعة جدا من مجتمعنا أصبحت تتوجس من “التراث الأندلسي” أو تجهل هذا التراث بشكل شبه مطلق، لأن المدارس والدوائر الحكومية الرسمية نادرا ما تتطرق إلى هذا الموضوع.
بيد أن هناك أشخاصا ومؤسسات تسعى لإبراز أهمية التراث الأندلسي وارتباط تاريخ وطننا الوثيق بالحضارة العربية المتوسطية، وهي روابط تتعدى حدود الكلمات العربية الكثيرة المتبقية في قاموسنا وكذا “الأكلات” والتقاليد التي لها أصول عربية إسلامية واضحة، وللأسف الشديد لا بد أن نقر بِأَنَّ قضية التركة العربية الإسلامية في إسبانيا ما زالت تثير نقاشات واختلافات لا تفيدنا بشيء.
بعد خروج العرب من الأندلس (1492م) ماذا بقي من العربية والإسلام في إسبانيا؟
عطفا على ما سبق، يجب أن نقر بأنّه بقي الكثير مما أنتجه العرب والأمازيغ والمسلمون عموما، ولكن دأب الكثيرون، بعد تأسيس دولة إسبانيا وإلباسها حلة دينية مسيحية متطرفة، على طمره وإخفائه لأغراض أيديولوجية بعيدة عن الطرح العلمي الموضوعي، ولذلك يعمل البعض على التخفيف من أهمية هذا التراث، في حين يعكف البعض الآخر على تلميعه وترويجه للناس.
ويعرف القليلون أن “مدريد” هي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي اسمها من أصل عربي (مجريط)، كما يجهلون جلَّ الإسهامات التي جاء بها العرب والأمازيغ من تطوير الفلاحة والعمران والبنى التحية إلى إثراء المكتبات الأوروبية وما إلى ذلك.

تنوير أوروبا.. دور إسلامي ونكران أوروبي
هل تؤيد ما قاله المستعرب الإسباني خواكين بوستامانتي كوستا بأن وصول الإسلام إلى أوروبا أحدث تغييرا كبيرا فيها من خلال تشكيل روح أكثر ليبرالية وأكثر عالمية، ساهمت في إخراج أوروبا من انغلاق ذهني وجهالة متشددة؟
نعم، أوافقه الرأي، والأدلة التاريخية خير شاهد على مقولته تلك، لاسيما وأن الأندلس فتحت أبوابا وطرقا جديدة سار عليها الأوروبيون، ولا أقصد فقط نقل أعمال الفلاسفة الإغريق وغيرهم إلى لغات أوروبية عبر الترجمات العربية، وإنما التشريعات الجديدة بشأن العلاقات ما بين الطوائف وسبل تأسيس المدن الجديدة وتنظيمها وتسيير شؤونها الإدارية، ومفهوم الجمال والهندام، وانتشار الحمامات العامة المنظمة والكثير من الإسهامات التي أفاد منها الأوروبيون لمدة قرون طويلة.
ومن ثم فإنّ المشكلة تكمن، كما سبق قوله، في وجود دوائر ثقافية وسياسية واجتماعية تصر على التنكر لهذه الحقائق أو التقليل من وزنها.
الشرق الروحي والغرب المادي
ما أهم الفروقات المادية والروحية بين الشرق (مهد الديانات) والغرب؟
أصبحت مقولة نمطية الإشارة إلى أن الشرق “روحي” والغرب “مادي”، ولكن لست على يقين بأنه توصيف دقيق، وقد تواصلت مع الكثير من العرب والمسلمين وكذلك الأوروبيين، ولا أعتقد أن هؤلاء أكثر روحية من أولئك، ولا أن الحضارة الغربية أكثر براغماتية من الشرقية، أظن أن المسألة تتعلق بمعطيات ومكونات اقتصادية سياسية ثقافية قد تكون ظرفية.
ففي أيام الأندلس، على سبيل المثال، كان المسيحيون أكثر “تعصبا” من الأندلسيين، أي كان لديهم رؤية متدينة منغلقة على نقيض الدول الإسلامية التي كان ينظر المسيحيون إليها على أنها “مصدر للتنوير” والعقلانية.
وإذا كان السؤال هل المجتمعات المسلمة أكثر ارتباطا بالدين من نظيراتها الأوروبية؟ فالجواب نعم، هذا أمر بديهي في الوقت الحاضر. وهل هذا شيء يصلح أو يضر؟ فهذا أمر طويل لا متسع لنا هنا للخوض فيه.
وأنت تدرس علوم الشرق.. ما تأثير العلوم العربية والإسلامية في النهضة الأوروبية؟
نعود إلى ما لمحنا إليه، التأثير واضح للعيان، إذ تتوفر لدينا بيانات وأدلة وقرائن لا تحصى تثبت فضل العلوم العربية على الثقافة الأوروبية، إلا أن المسائل الأيديولوجية وتشبث البعض بمقاربة مغلوطة للتاريخ حالت دون الاعتراف بذلك في كثير من الأحيان.
الاستشراق والاستعراب.. هل توافق على أن “المستشرقين” عملوا على تشويه صورة الشرق لدى الأوروبيين والعالم، بينما يحاول المستعربون تصحيحها؟
في إسبانيا نعتاد أن نفرق بين المستعربين والمستشرقين على أساس انتماء الأوائل إلى المدرسة الإسبانية القديمة المهتمة بالدراسات العربية والإسلامية والتي أنشئت أيام الأندلس في الأراضي الخاضعة للمسيحيين، ومرد نشوء تلك المدارس الاطلاع على الثقافة العربية والعلوم الإسلامية للاستفادة من عناصرها الإيجابية من جهة و”معرفة العدو” من جهة أخرى لأغراض تبشيرية وما شاكل ذلك، أما المدرسة الاستشراقية فتنامت في أوروبا خلال القرن الـ19 في أجواء سياسية متميزة عنوانها الاستعمار والهيمنة على “الشرق”، لذلك نجد فوارق عديدة، الاستعراب الإسباني الكلاسيكي له أهداف علمية ودينية بحتة، على الأقل في مراحله التأسيسية، في حين امتاز الاستشراق الأوروبي بعلاقته العضوية بالاستعمار، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن ما جاد به المستشرقون مرفوض جملة وتفصيلاً، كلا، بل لهم دراسات وبحوث وتحقيقات أَثْرَت الدراسات العربية والإسلامية من دون أن تكون لها انعكاسات مشبوهة.

انحطاط ثقافي وديمغرافي
يُسوِّق الإعلام أفكار “الإسلاموفوبيا” وشيطنة المسلمين، كيف ترى هذه الظاهرة؟
عودتنا “الميديا” ومن ورائها الدوائر السياسية والأيديولوجية التي تساندها، على انتقاء “غريب” يصلح ليتم تحويله، مع حلول كل عصر جديد، إلى العدو المنافس النقيض، نعيش الآن في رهاب الإسلام والدعوة إلى مواجهة “المد العدواني الإسلامي” كما يسمونه، وأعتقد أن القضية تعبر أكثر عن “انحطاط ثقافي وديمغرافي في أوروبا” منها عن خطر حقيقي يمثله المسلمون.
والأسوأ أن نظرية “الإحلال” (الجالية المسلمة مكان المواطنين الأوروبيين الأصليين)، وكذلك ما يشاع عن عدم قدرة المسلمين على التكيف مع الحداثة وكل “الخزعبلات والترهات” التي نسمعها من هنا وهناك، الأسوأ أن هذه الدعاية صارت تؤثر تأثيرا في شرائح محددة من المجتمعات الأوروبية، خصوصا في المناطق الريفية أو في ضواحي المدن الكبرى، وعلى المستعربين ودارسي الثقافة العربية الإسلامية التصدي لها بكل قوة وثبات بما في جعبتهم من حجج وبراهين ومواقف منطقية سليمة.
الحروب الصليبية.. مقدمة للاستعمار الحديث
هل كانت الحملات الصليبية محاولة لتصدير الانقسامات داخل الكنيسة وتوجيه الأنظار نحو عدو خارجي؟ وكيف ساهمت تلك الحملات في نقل معالم الحضارة الإسلامية إلى أوروبا؟
الحملات الصليبية باختصار شديد هي المقدمة التاريخية لفترة الاستعمار التي اكتملت بعد قرون من الزمن، صحيح أنه ثمة خلافات داخلية في الكنيسة الكاثوليكية حينذاك والمنافسة الحامية الوطيس بين الملوك المسيحيين على الانفراد بالسيطرة، ولكن الأسباب، بصرف النظر عن “تحرير الأراضي المقدسة” وغيرها من الشعارات الدينية الغيورة ذات الحماسة والنعرة الروحية، هي أسباب اقتصادية مادية توسعية في المطاف الأول.
العمران الأندلسي.. الأصول إسلامية
ماذا بقي من أثر العمارة الإسلامية في النفس الإسبانية؟ وكيف أثرت هذه العمارة على إسبانيا الحديثة؟
العمارة الإسلامية كان لها تجليات مستدامة مثمرة في عمراننا الحديث، حتى إن أحد الأنواع العمرانية الإسبانية الأصيلة هي “المدجنة”، إشارة إلى المسلمين الذين ظلوا تحت الحكم المسيحي بعد زوال الأندلس وأسهموا في تطوير الأنماط البنائية الإسبانية، وتسهل ملاحظة ذلك في كثير من المباني العمومية والمساكن والعمارات وحتى حلبات مصارعة الثيران التي بنيت في القرن الـ19 وكذلك في قرننا هذا، ولا غرابة في ذلك إذ ذَكَّرنا القاصي والداني بأنّ أكثر معلم أثري زيارة في إسبانيا هو قصر الحمراء، ولذلك نرى واضحا البقاء العمراني الأندلسي.
وإذا تبقى من يتنكر لهذا الواقع الملموس، فالسبب يجب أن ننقب عنه في اعتبارات أيديولوجية لا قيمة لها.